هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

رؤى فلسفية

فلسفة التشاؤم (4 – 4)

نقف الآن عند لحظة حاسمة في هذه الرحلة التي بدأناها مع فلسفة التشاؤم، حيث يوجّه هارتمان نقده أساسًا إلى الوهم الأول من أوهام السعادة. فهو يرى أن كل لذة ضعيفة وعابرة إذا قورنت بالألم المقابل لها. ويأخذ غريزتين يُقال إنهما تحرّكان العالم – الجوع والحب – ويقارن بين مباهجهما ومعاناتهما، ليعلن أن كفّة المعاناة فيهما أرجح بكثير وأطول أمدًا. وبعد كل ما قاله شوبنهاور عن الحب، وما عبّر عنه الشعراء والسخرية عبر العصور عن آلامه، يأتي هارتمان ليجمع كل ويلات القلب وخداعاته في لوحة مظلمة لم يترك فيها شعاع نور واحد يخفف من قتامة الصورة.

ويصنّف هارتمان ما يُسمى بمزايا الحياة الإنسانية إلى أقسام واضحة:
* ما هو في حقيقته مجرد غياب لأنواع من المعاناة، مثل الصحة، والشباب، والراحة المادية.
* ما هو محض خيال، مثل طلب الثروة، والسلطة، ومكانة الشرف.
* ما يجلب من الألم أكثر مما يجلب من اللذة، مثل الجوع والحب.
* ما يقوم على أوهام يبددها العقل، مثل حب الذات، والتقوى، والرجاء.
* ما يُعرف بأنه شرّ، لكنه يُحتمل كمهرب من شر أعظم، مثل العمل والزواج.
* وأخيرًا، ما يجلب لذة أكثر من ألم، لكنه لا يُنال إلا بثمن معاناة كبيرة، ولا يحظى به سوى قلة، مثل الفن والعلم.
بهذا التصنيف، يقدّم هارتمان قراءة دقيقة لمزايا الحياة، مع كشف التناقضات الجوهرية بين ما نراه قيمًا وما هي عليه في الواقع، ليواصل توجيه نقده العميق للسعادة والوهم الذي يحيط بها.
وبحسب هارتمان، فإن العالم ميؤوس منه تمامًا. فرغم كل الإصلاحات وارتفاع مستوى الوعي، يظل أسوأ من أي وقت مضى. ويمكن تلخيص فلسفته بكلمات أيوبية: "العن الله ومت." فلا لمسة من الشفقة أو التعاطف الإنساني تخفف من قتامة الصورة التي يرسمها. بل يبدو وكأنه يجد متعة باردة في بناء نسق منطقي يحطم كل أمل وثقة بشرية.

ومع ذلك، هذا الجهد يبدو ضائعًا؛ فهو لم ينجح في إقناعنا بأن علينا أن نكون أشقياء. كما فشل في موازنته بين اللذات والآلام، إذ إن معيار الكيفية هو وحده الذي يصلح للمقارنة، ولا يمكن اختزاله إلى معادلة رياضية. هناك لحظات من السعادة، من شدتها، ما يجعل المرء يفتديها بعمر كامل من المعاناة، وهناك أحزان، من شدتها، ما يحجب كل ما يقابلها من مباهج.

فالمتعة والألم عنصران ذاتيان في التقدير، لا يُقاسان بمقياس خارجي واحد. قد يجد إنسان قوي البنية في النشاط، وممارسة إرادته، ومجابهة العقبات، لذة، بينما ينفر آخر ضعيف الصحة من الصراع ويلتمس الراحة. فمن يملك أن يقرر أيّ الحالين في ذاته ألم أو لذة؟ حياتي من وجهة نظرك قد تكون شقاءً، ولكن ما شأنك بذلك إذا كنت من وجهة نظري سعيدًا؟

إن شوبنهاور وهارتمان معًا أغفلا جوهر المسألة: القيمة المطلقة للحياة في ذاتها ولذاتها. فإذا كان كانط محقًا، وإذا كان للعالم تفسير واحد وغاية واحدة، وإذا كانت الحياة مدرسة للتجربة والعمل، حيث يؤدي الإنسان مهمته بعيدًا عن مجرد ما يناله من لذة، وإذا كانت هذه المهمة تكمن في تكوين شخصية أخلاقية من خلال ممارسة الإرادة، فحينئذٍ يتغير المنظور كليًا، وتصبح نظريات التشاؤم باطلة من جذورها.

تلعب فكرة اللاوعي في فلسفة هارتمان الدور نفسه الذي تلعبه فكرة الإرادة عند شوبنهاور، مع أنّ من العسير فهم ما يُراد بها أو كيف يمكن أن تكون لا واعية وفي الوقت نفسه عاقلة وحكيمة. فهو يراها الجوهر الذي يتكون منه العالم، والقوة الشاملة التي تسير مساره. غير أن حصيلة تطورها ليست سوى البؤس، وحين يبلغ هذا البؤس ذروته في الوعي الإنساني، لا يبقى أمامه إلا خلاص واحد: انتحار كوني، يتحقق بطريقة غريبة من خلال السلوك الأخلاقي والإرادة الجمعية للبشرية، أي "إلقاء الإنسانية لمسار العالم كله في العدم".

وهل يُتخيل ما هو أغرب من ذلك؟ إن خفة هذا الادعاء تختلف تمامًا عن كآبة شوبنهاور، التي تظل، رغم كل شيء، أكثر واقعية وتضفي بعض الجلال على نظريته التشاؤمية.

ويبقى السؤال: فهل قَدَر التشاؤم أن يرافق الإنسان، أم أنه مجرد ظل يزول مع صخب الحياة اليومية؟
إذا أردنا جوابًا واقعيًا، فلن نجد أفضل من النظر إلى طبيعة الإنسان نفسه: إرادته، وعمله، وشغفه بالحياة. فالتشاؤم مهما بلغ من قوة المنطق لا يقدر أن يصمد طويلًا أمام حاجة الإنسان إلى الأمل والفعل والمعنى. قد يسطع للحظة في تاريخ الفكر، يثير ضجة أو يترك أثرًا عابرًا، لكنه لا يلبث أن يتلاشى مع صخب الحياة اليومية وضروراتها.
فالعالم لا يُدار باليأس، بل بما يفعله الناس كل يوم، في سعيهم وكفاحهم وأحلامهم. لهذا، فإن مستقبل التشاؤم ليس في أن يحكم الفكر أو يقود الحياة، بل في أن يظل صوتًا هامشيًا، يذكّرنا بظلال الوجود، بينما تمضي الإنسانية – بكل عنادها – لتؤكد أن الحياة، رغم كل ما فيها، تستحق أن تُعاش.
[email protected]